هل تتذكر فيلم خطاب الملك (The King’s Speech)؟ ذلك الفيلم الذي جذب الملايين بقصته الملهمة للملك «جورج السادس» ومعركته مع التلعثم والتأتأة؟ عشنا مع القصة رحلة إنسانية مليئة بالتحديات وكيف يمكن للدعم الصحيح أن يحدث فرقًا مذهلًا. لكن بعيدًا عن شاشات السينما، يوجد ملايين الأشخاص الذين يعيشون هذه القصة يوميًا ويواجهون صعوبات التلعثم كجزء من حياتهم.
ورغم انتشار الوعي حول التلعثم بفضل قصص مثل هذه، إلا أن المفاهيم الخاطئة حوله لا تزال تنتشر ومستوى الوعي لا يزال قليل. في هذا المقال، سنتناول رؤية أعمق لفهم حالة التلعثم ونكشف أسبابها ونقدّم خطوات عملية لدعم من يعانون منها، خاصة الأطفال. لأن التلعثم ليس نهاية القصّة، بل بداية لكل رحلة ملهمة لأطفالنا.
ما هو التلعثم؟
التلعثم ويعرف أيضًا «التأتأة» هو اضطراب في النطق يتميز بانقطاع تدفق الكلام الطبيعي وتشمل مظاهره:
- تكرار الأصوات أو المقاطع أو الكلمات
- وإطالة الأصوات
- والتوقف المؤقت أو انقطاع النطق لفترة وجيزة
- وتوتر واضح في عضلات الوجه أو تغيّرات في التنفس أثناء التحدث
من المهم ملاحظة أن التلعثم يختلف من شخص لآخر، وأن صعوبات الكلام المؤقتة لا تعني بالضرورة وجود مشكلة مستمرة. وغالبًا يبدأ التلعثم غالبًا بين عمر السنتين والخمس سنوات ويتخطى بعضهم التلعثم مع الوقت بينما يحتاج آخرون إلى تدخل علاجي ودعم، وهي فترة حاسمة لتطور اللغة فوفقًا لإحصائيات مركز التلعثم:
- حوالي 5% من الأطفال الصغار يعانون من التلعثم في مرحلة ما
- حوالي 1% من الأشخاص يستمر لديهم التلعثم حتى سن البلوغ
ما هي أعراض التلعثم؟

التلعثم ليس مجرد مشكلة في الكلام، بل هو اضطراب تواصل معقد يتأثر بعوامل نفسية واجتماعية مختلفة، تشمل أعراضه:
1. اضطرابات في تدفق الكلام:
- التكرارات: إعادة الأصوات أو المقاطع أو الكلمات أكثر من مرة (مثل: ك-ك-كيف حالك؟).
- الإطالات: مدّ الصوت لفترة أطول من الطبيعي (مثل: كـــــــيف حالك؟).
- التوقفات المفاجئة: صمت غير متوقع حيث لا يخرج أي صوت على الإطلاق.
2. صعوبات في التنفس أثناء الكلام:
- انقطاع تدفق الهواء بسبب تجمّد الحجاب الحاجز، مما يؤدي إلى صعوبة في إصدار الأصوات.
- الشعور بانسداد أو “توقف” في الكلام بسبب عدم القدرة على تحريك الهواء داخل وخارج الرئتين بسلاسة.
3. حركات جسدية غير إرادية مصاحبة لمحاولة النطق:
- توتر في الوجه والفكّ أو ظهور تعابير وجهية غير معتادة أثناء محاولة النطق.
- حركات جسدية غير إرادية مثل ارتعاش الشفاه أو العينين، أو تحريك اليدين أو القدمين أثناء محاولة إخراج الكلمات.
4. التأثيرات النفسية والاجتماعية:
- القلق والتوتر عند التحدث، خاصة في المواقف الاجتماعية أو الرسمية.
- تجنب التحدث أو اختيار كلمات بديلة للهروب من الكلمات التي قد تسبب التلعثم.
- الإحساس بالإحراج أو فقدان الثقة بالنفس بسبب ردود أفعال الآخرين.
- زيادة التلعثم في المواقف التي تسبب الضغط النفسي، مثل التحدث أمام جمهور أو في مقابلات العمل.
ما هي أنواع التلعثم؟

يمكن تصنيف التلعثم إلى ثلاثة أنواع رئيسية:
- التلعثم التطوري
يُعد النوع الأكثر شيوعًا، ويحدث لدى الأطفال الصغار أثناء تعلمهم للكلام، عندما يكون الدماغ في طور تطوير قدراته اللغوية والحركية، وغالبًا ما يكون مرتبطًا بتطور اللغة السريع وقد يختفي دون تدخل طبي مع تقدم العمر.
- التلعثم العصبي
يرتبط بإصابات أو اضطرابات في الجهاز العصبي المركزي، مثل السكتة الدماغية، أو إصابات الدماغ، أو الأمراض العصبية التنكسية، ويتسبب هذا النوع في تعطيل التنسيق بين الإشارات العصبية والعضلات المسؤولة عن النطق.
- التلعثم النفسي
نادر نسبيًا وينجم عن عوامل عاطفية أو صدمات نفسية عميقة، ويمكن أن يكون مرتبطًا بقلق شديد أو تجارب مؤلمة، حيث يؤدي الضغط النفسي إلى اختلال في النطق.
ما هي أسباب التلعثم والتأتأة عند الأطفال؟
ينتج التلعثم عن مزيج من الأسباب والعوامل العصبية والاجتماعية والنفسية، مما يجعل تشخيصه وعلاجه يتطلب فهمًا شاملاً لكل هذه الجوانب. ولفهم أسباب التلعثم، يجب أولًا فهم كيفية حدوثه.
كيف يحدث التلعثم؟

النطق يعتمد على التنفس، حيث يعمل الحجاب الحاجز على دفع وسحب الهواء إلى الرئتين. عندما يتوقع الشخص المتلعثم أنه سيتوقف على كلمة أو صوت معين، فإن الخوف يجمد الحجاب الحاجز، مما يجعل الهواء يتوقف. وهكذا، يجد الشخص نفسه غير قادر على دفع الهواء للخارج، مما يؤدي إلى الانغلاق والتوتر، وأحيانًا إلى حركات وجه لا إرادية أثناء محاولة الكلام دون هواء كافٍ.
كلما زاد الخوف، زاد التلعثم، وأصبح الأمر دائرة مغلقة تزداد تعقيدًا مع مرور الوقت.
ومن أسباب التلعثم أيضًا:
1. العوامل الجسدية
- الجينات: قد يكون التلعثم وراثيًا، حيث يمكن أن ينتقل بين أفراد العائلة.
- وظائف الدماغ: قد تساهم الاختلافات في معالجة الدماغ للغة والنطق في حدوث التلعثم.
- تطور اللغة: قد يؤدي التطور السريع في مهارات اللغة إلى إجهاد قدرة الطفل على النطق بطلاقة.
2. العوامل الاجتماعية
- البيئة السريعة والمليئة بالضغوط قد تزيد من التلعثم لدى الأطفال.
- استخدام لغة معقدة أو التحدث بسرعة مفرطة يمكن أن يجعل الأمر أكثر صعوبة على الطفل.
3. العوامل العاطفية
- التلعثم ليس مرتبطًا بالخجل أو العصبية بطبيعته، ولكنه قد يؤثر على الثقة بالنفس مع مرور الوقت.
- قد يشعر الطفل بالقلق من التحدث، خاصة إذا شعر بالحكم أو الاستعجال.
4. العوامل العصبية
- اختلافات في بنية الدماغ: تشير الدراسات إلى أن الأفراد الذين يعانون من التلعثم لديهم اختلافات في النشاط العصبي، خاصة في المناطق المرتبطة بالنطق مثل الفص الجبهي (Frontal Lobe) والفص الصدغي (Temporal Lobe).
- اضطراب الاتصال العصبي: وجود خلل في الاتصال بين نصفي الدماغ قد يؤدي إلى بطء في إرسال واستقبال الإشارات المتعلقة بالكلام.
5. الجهاز العضلي التنفسي
- التنسيق بين التنفس وحركات الحبال الصوتية والفم هو عامل حاسم في الكلام الطليق. أي خلل في هذا النظام يؤدي إلى انقطاع أو ارتباك أثناء النطق.
ما الأثر النفسي والاجتماعي للتلعثم على حياة الأطفال؟
يؤثر التلعثم وأعراضه بشكل كبير على مختلف حياة الطفل يوميًا، ومثل ذلك نذكر:
- صعوبات التواصل: قد يتجنب الأفراد التحدث أمام الجمهور أو المشاركة في المحادثات بسبب الخوف من الأحكام السلبية أو الإحراج.
- الصعوبات الأكاديمية والمهنية: يعوق التلعثم الأداء في العروض التقديمية، والمقابلات الوظيفية، أو المناقشات الجماعية، مما يحد من الفرص التعليمية والمهنية.
- العزلة الاجتماعية: قد يؤدي القلق والإحباط المرتبط بالتلعثم إلى تقليل التفاعل الاجتماعي والشعور بالعزلة، ويجعل التفاعلات الاجتماعية مرهقة نفسيًا وعاطفيًا.
- الرفاه النفسي: غالبًا ما يرافق التلعثم انخفاض في تقدير الذات وزيادة في التوتر والقلق، مما يخلق دورة قد تزيد من حدة الحالة.
علاج التلعثم عند الأطفال
رغم عدم وجود علاج نهائي للتلعثم، إلا أن هناك العديد من الطرق التي يمكن أن تساعد في إدارة العوامل المرتبطة به:
- العلاج بالنطق: يتضمن تقنيات مثل التحكم في التنفس، وتبطئة الكلام، وتمارين الاسترخاء لتحسين طلاقة النطق وتقليل التوتر في العضلات.
- العلاج السلوكي: يهدف إلى معالجة التأثير النفسي للتلعثم، مما يساعد الأفراد على التغلب على القلق وبناء الثقة في التواصل.
- الأدوية: في بعض الحالات، قد يتم وصف أدوية تستهدف العوامل العصبية أو النفسية الكامنة (تحت استشارة طبيب أو مختص موثوق).
- تعديلات نمط الحياة: الحفاظ على صحة بدنية جيدة من خلال التغذية السليمة، والنوم الكافي، وإدارة التوتر يساهم بشكل غير مباشر في تحسين طلاقة الكلام.
كيف يمكن للوالدين تقديم الدعم في حالة التلعثم عند الطفل؟
يلعب الوالدان دورًا حيويًا في دعم الأطفال الذين يعانون من التلعثم. إليك استراتيجيات عملية يمكنك تنفيذها:
- تهيئة بيئة هادئة: خصص وقتًا للاستماع لطفلك في جو هادئ وخالٍ من المشتتات، وأظهر الصبر وتجنب مقاطعة حديثه أو إكمال جُمله.
- كن نموذجًا للهدوء والنطق الواضح: تحدث ببطء لتكون قدوة حسنة، واستخدم لغة بسيطة وواضحة دون استعجال.
- شجّع التفاعل الإيجابي: حافظ على تواصل بصري طبيعي لإظهار اهتمامك، وركّز على ما يقوله طفلك بدلًا من كيفية قوله.
- أدخل الروتين والتنظيم: أنشئ جدولًا يوميًا منتظمًا لتقليل التوتر، وقلل من المواقف المزدحمة أو السريعة التي قد تزيد من التوتر.
- عزز الثقة بالنفس: امتدح إنجازاته التي لا علاقة لها بالنطق، لا تركز على الطلاقة فقط، بل احتفل بجهوده في التواصل.
أخيرًا، التلعثم ليس ضعفًا وليس خطأً، ولا يجب أن يكون حاجزًا، والخطوة الأولى لعلاجه الوعي. إذا كنت تعاني من التأتأة أو التلعثم، لا تخف من طلب المساعدة من أخصائي نطق قريب منك. وإذا كنت لا تعاني من التلعثم، فحاول أن تكون متفهمًا وداعمًا في محادثاتك، ففي النهاية، لكل الكلمات قيمة بغض النظر عن الطريقة التي تُقال بها. تذكر: التغييرات الصغيرة في عادات التواصل يمكن أن تحدث فرقًا كبيرًا في دعم طلاقة طفلك.