التواصل الفعّال مع الآخرين لا يعتمد فقط على نطق الكلمات بشكل صحيح، بل يتطلب أيضًا مهارات التواصل الاجتماعي لفهم سياق الحديث وإيصال المعنى بشكل ملائم. بعض الأطفال يمتلكون حصيلة لغوية جيدة وقدرات إدراكية طبيعية، ومع ذلك يواجهون صعوبات في فهم اللغة الاجتماعية واستخدامها في الحياة اليومية. يلاحظ الأهل ربما أن طفلهم قادر على الكلام بطلاقة لكنه يجد مشقة في بدء محادثة مع أقرانه، أو لا يفهم النكات والتعابير المجرّدة.
هذه العلامات قد تشير إلى نوع خاص من اضطرابات التواصل يُعرف باسم اضطراب اللغة البراجماتية أو اضطراب التواصل الاجتماعي (Pragmatic Language Disorder). سنستعرض في هذا المقال ماهيّة هذه الاضطرابات وأسبابها وأعراضها، وكيفية تشخيصها وعلاجها، لمساعدة الأهالي على فهمها والتعامل معها.
ما هي اضطرابات اللغة البراجماتية؟
اضطراب اللغة البراجماتية (ويُسمى أيضًا اضطراب التواصل الاجتماعي البراغماتي) هو خلل في القدرة على استخدام اللغة بشكل مناسب في السياقات الاجتماعية، أي أن الطفل قد يتحدث بجمل سليمة من حيث النحو والمفردات، لكنه يواجه صعوبة في إدارة الحوار وفهم «غير المنطوق» في التواصل، مثل عدم فهم الإشارات غير اللفظية وتلميحات الكلام، وعدم القدرة على تغيير أسلوب الحديث تبعًا للموقف أو المستمع.
هذه المهارات البراجماتية تشكّل جوهر التواصل اليومي؛ فهي ضرورية للتفاعل الاجتماعي وتكوين العلاقات. ويعاني الفرد المصاب من نمط اتصال قد يبدو «غير تقليدي» أو غير ملائم للموقف، مما قد يجعل تواصله مع الآخرين صعبًا ومربكًا.
وعترفت الجمعية الأمريكية للطب النفسي بهذا الاضطراب كتشخيص مستقل نسبياً حديثًا في الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية DSM-5 عام 2013، ما يعني أنه أصبح مفهومًا بشكل أفضل كحالة مميزة عن غيرها.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاضطراب يختلف عن اضطرابات النطق أو اللغة التقليدية التي تتعلق بنطق الأصوات أو تركيب الجمل، فهو يختص بمهارات التواصل الاجتماعي وفهم سياق الكلام وقواعد المحادثة. على الرغم من حداثة هذا التشخيص، تُشير بعض الدراسات إلى انتشاره أكثر مما يُعتقد. فقد وجد بحثٌ شمل أكثر من ألف طفل في سن ما قبل المدرسة أن حوالي 7.5% من الأطفال قد يعانون من مشكلات براجماتية في التواصل، مع ملاحظة انتشار أعلى بين الذكور مقارنة بالإناث. وترتفع هذه النسبة لدى الأطفال الذين لديهم اضطرابات لغة أخرى إلى حوالي 23%-33%، مما يدل على أن صعوبات فهم اللغة الاجتماعية قد ترافق اضطرابات لغوية وتنموية أخرى.
هذه الأرقام تعني أن اضطراب اللغة البراجماتية ليس نادرًا تمامًا، بل قد يكون موجودًا بين عدد معتبر من الأطفال، ومع ذلك يظل كثير منهم بدون تشخيص صحيح بسبب تشابه الأعراض مع حالات معروفة كالتوحّد أو اضطرابات فرط الحركة.

أسباب اضطراب التواصل الاجتماعي
لا تزال الأسباب الدقيقة لاضطرابات اللغة البراجماتية غير مفهومة بالكامل، ويرجح الباحثون أنها تنجم عن مجموعة عوامل متداخلة وراثية وبيئية وعصبية.
- فعلى سبيل المثال، لوحظ أن الصعوبات التواصلية الاجتماعية قد تتكرر في بعض العائلات، مما يوحي بوجود استعداد وراثي؛ فإذا وجد تاريخ لأحد اضطرابات التواصل أو اضطراب طيف التوحّد في الأسرة، يزيد ذلك من احتمالية ظهور اضطراب التواصل الاجتماعي لدى الطفل.
- من الناحية العصبية، يعتقد أن هناك اختلافات في طريقة عمل بعض مناطق الدماغ المسؤولة عن معالجة اللغة والتفاعل الاجتماعي لدى هؤلاء الأفراد، وهو ما يمكن أن يفسّر جانبًا من مشكلاتهم في فهم الإشارات الاجتماعية والتلميحات.
- أما العوامل البيئية، فقد تساهم هي الأخرى بدرجة معينة؛ فقلة تعرض الطفل للبيئات الاجتماعية المناسبة في سن مبكرة أو محدودية نماذج التواصل من حوله يمكن أن يعيق تطوير المهارات الاجتماعية العملية.
لكن من المهم التأكيد أن الأهل ليسوا سببًا مباشرًا لهذا الاضطراب –فهو اضطراب نمائي عصبي في الأساس– إلا أن البيئة الداعمة والغنية بالتفاعل قد تساعد الطفل على تحسين مهاراته مع الوقت. في المحصلة، يمكن القول إن اضطراب اللغة البراجماتية ينتج على الأرجح من مزيج من التكوين البيولوجي والتجارب الحياتية المبكرة، مع عدم وجود سبب واحد قاطع محدّد حتى الآن.
أعراض اضطرابات اللغة البراجماتية
تظهر اضطرابات اللغة البراجماتية بعدّة أشكال قد يلاحظها الوالدان والمربّون في مواقف الحياة اليومية. فيما يلي أبرز الأعراض والعلامات التي قد تدل على هذا الاضطراب:
- ضعف التواصل البصري: يميل الطفل إلى تجنّب التواصل بالعين أو يقلّل منه أثناء الحديث، فينظر للأسفل أو بعيدًا عند مخاطبة الآخرين. قد يُفسّر المحيطون ذلك على أنه خجل أو عدم اهتمام.
- عدم فهم الإشارات غير اللفظية: يواجه صعوبة في تفسير تعابير الوجه أو لغة الجسد أو نبرة الصوت لدى الآخرين، فلا يلتقط مغزى الابتسامة أو انزعاج ملامح الوجه أو اختلاف طبقة الصوت.
- مشكلات في مهارات المحادثة: يجد صعوبة في بدء المحادثات أو الحفاظ على استمرارها أو إنهائها بشكل مناسب. قد لا يعرف كيف يُحيّي الآخرين بصورة ملائمة أو متى يتحدث ومتى ينصت، وربما يقاطع المتحدثين بشكل متكرر دون إدراك قواعد تبادل الأدوار في الحوار.
- عدم تعديل أسلوب الكلام حسب السياق: يستخدم نفس نمط التواصل مع الجميع وفي كل المواقف، دون مراعاة اختلاف المقام. على سبيل المثال، قد يتحدث إلى المعلم بنفس الطريقة التي يخاطب بها صديقًا في اللعب، أو يستخدم عبارات رسمية جدًا في موقف غير رسمي (أو العكس).
- فهم حرفي للغة وصعوبة فهم المغزى: يأخذ العبارات بمعناها الحرفي ويفوته المعنى الضمني أو المجازي. على سبيل المثال، قد لا يفهم النكات ويجد صعوبة في استيعاب السخرية أو الأمثال والتعابير الاصطلاحية، مما يؤدي إلى صعوبات في فهم اللغة الاجتماعية المقصودة في الكلام.
- نبرة أو صوت غير مناسب: قد يتحدث بصوت عالٍ جدًا في موقف يتطلب الهدوء، أو بالعكس بخفوت شديد حيث يلزم أن يرفع صوته. كذلك قد تكون نبرة كلامه غير ملائمة (مثل نبرة رتيبة أو حادة بشكل غريب)، فلا يضبط صوته وفقًا للسياق الاجتماعي.
- سرد غير منظّم للأحداث: عند حكي قصة أو حدث ما، يجد صعوبة في تنظيم الأفكار وتسلسلها بشكل مفهوم. قد يروي الوقائع بطريقة مشتّتة تقفز بين الأفكار دون رابط واضح، مما يجعل من الصعب على المستمع تتبّع الفكرة أو فهم مغزى القصة.
- التركيز على موضوع واحد أو تكرار الكلام: قد يعلق الطفل في موضوع معين يكرره باستمرار في حديثه حتى وإن كان الطرف الآخر غير مهتم، أو يعيد نفس العبارات مرارًا، ويجد صعوبة في الانتقال لموضوع آخر حسب السياق. هذا الجمود في التواصل قد يبدو غريبًا أو غير مناسب للموقف.
- صعوبة تكوين صداقات وفهم مشاعر الآخرين: نظرًا لكل ما سبق، قد يواجه الطفل تحديات في الاندماج مع أقرانه. فقد لا يفهم تمامًا القواعد الاجتماعية لبناء الصداقات (مثل تبادل الحوار واللعب)، مما يؤدي إلى سوء تفاهم مع الأطفال الآخرين. كما قد يواجه صعوبة في تفسير مشاعر الغير أو إظهار التعاطف بشكل مناسب أثناء التفاعل. على سبيل المثال، ربما لا يواسي صديقًا حزينًا بصورة متوقعة أو يضحك في موقف جاد لعدم قراءته تعابير الوجه على نحو صحيح.
هذه الأعراض قد تظهر جميعها أو بعضها لدى الطفل وبدرجات تختلف من حالة لأخرى. من المهم أيضًا ملاحظة أن كثيرًا من هذه التصرفات قد تصدر من أي طفل في بعض الأوقات، لكن ما يميز اضطراب اللغة البراجماتية هو استمرارية هذه الصعوبات وتأثيرها الواضح على قدرة الطفل على التواصل والاندماج اجتماعيًا بشكل طبيعي. لذا إذا اجتمعت عدة علامات مما سبق بشكل متكرر وأثرت على حياة الطفل اليومية والاجتماعية، فيُنصح بالتوجه إلى مختص للتقييم.
أنواع اضطرابات اللغة البراجماتية
عادة ما يُستخدم مصطلح اضطراب التواصل الاجتماعي (البراغماتي) للإشارة إلى الحالة القائمة بذاتها التي وصفناها أعلاه عندما تكون هي المشكلة الأساسية لدى الطفل، ولكن تجدر الإشارة إلى أن صعوبات اللغة البراجماتية قد تظهر بأنماط مختلفة وبالترافق مع حالات أخرى، وفيما يلي توضيح لأبرز السياقات أو الأنواع التي تندرج تحتها هذه الصعوبات:
- اضطراب التواصل الاجتماعي البراغماتي (الأولي): وهو التشخيص المستقل الذي يُطلق عندما تكون مشكلة الطفل الأساسية هي خلل في مهارات التواصل الاجتماعي البراجماتي دون وجود اضطرابات نمائية أخرى تفسّر هذه الصعوبات. في هذه الحالة يكون الذكاء العام للطفل ونموّه اللغوي في الجوانب الأخرى ضمن الطبيعي، ولكن لديه تحديات خاصة في جانب براجماتية اللغة (الاستخدام الاجتماعي للغة). هذا الاضطراب تم تمييزه حديثًا عن غيره لأنه لا يشمل أعراضًا أخرى كتلك الموجودة في التوحد، بل يتركز فقط على مشاكل التواصل الاجتماعي.
- ضمن اضطراب طيف التوحّد (ASD): يظهر ضعف التواصل الاجتماعي كإحدى السمات الرئيسية أيضًا لدى الأطفال المصابين بالتوحّد، حتى لو كانوا يمتلكون قدرات لغوية جيدة في النطق والقواعد. لكن الفارق أن الطفل على طيف التوحد لديه إضافة إلى ذلك أنماط سلوكيات واهتمامات مقيدة ومتكررة لا توجد في اضطراب اللغة البراجماتية وحده.
بمعنى آخر، اضطراب طيف التوحد أوسع نطاقًا؛ يتضمن تحديات التواصل الاجتماعي بالإضافة إلى أعراض أخرى مثل الحركات النمطية أو الاهتمامات المحدودة. وفقا للمعايير التشخيصية، يجب استبعاد التوحد قبل تأكيد تشخيص اضطراب التواصل الاجتماعي البراغماتي.
وكثيرًا ما يُطرح السؤال حول الفرق بين الحالتين، والإجابة باختصار أن الطفل المصاب باضطراب اللغة البراجماتية لا تظهر عليه السمات الأخرى المميزة للتوحّد، مع أنه يتشابه معه في جوانب التواصل الاجتماعي.
- ضمن اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD): اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة هو اضطراب مختلف في طبيعته، إذ يؤثر بشكل أساسي على التركيز والتحكم بالاندفاع والنشاط الزائد. إلا أن بعض أطفال ADHD قد يبدون أيضًا صعوبات في التواصل الاجتماعي – ليس كجزء جوهري من التشخيص، بل كنتيجة ثانوية لاندفاعيتهم أو تشتتهم.
فقد يقاطع الطفل الدي يعاني من فرط الحركة الحديث لأنه لا يملك الصبر الكافي، أو ربما لا يلتقط الإشارات الاجتماعية لأنه لم يكن منتبهًا لها. ورغم أن اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة ADHD واضطراب اللغة البراجماتية حالتان منفصلتان، فمن الممكن أن يعاني الطفل من كلا الاضطرابين معًا؛ في هذه الحالة يحتاج إلى خطة علاجية تراعي الجانبين.
- مرافقة لاضطرابات اللغة أو التعلم: في بعض الأحيان، لا يكون الخلل البراجماتي منفردًا، بل يظهر لدى طفل يعاني أصلًا من اضطراب لغة تطوري آخر أو من صعوبة تعلم معينة. على سبيل المثال، طفل لديه تأخر نمائي في اللغة (تأخر في اكتساب المفردات أو القواعد) قد يظهر أيضًا مشاكل في استخدام اللغة اجتماعيًا. في الواقع، أشارت دراسات إلى أن نسبة عالية (قد تصل إلى ثلث الحالات) من الأطفال ذوي اضطرابات اللغة يعانون أيضًا من صعوبات براجماتية في التواصل. لذا يُنظر أحيانًا إلى اضطراب التواصل الاجتماعي كجزء من طيف أوسع من اضطرابات التواصل.
فهم هذه الأنواع أو السياقات مهم لأن خطة التشخيص والعلاج قد تتأثر بوجود اضطرابات أخرى. فلو كانت صعوبات الطفل البراجماتية تأتي ضمن إطار التوحّد أو أي حالة أخرى، يجب معالجتها بالتزامن مع تلك الحالة الشاملة. أما إذا كانت منعزلة، فتركيز العلاج سيكون منصبًا بالكامل على تنمية مهارات التواصل الاجتماعي لدى الطفل.

تشخيص اضطراب اللغة البراجماتية
يتطلّب تشخيص اضطرابات اللغة البراجماتية تقييمًا دقيقًا وشاملًا لقدرات الطفل التواصلية، ويتم عادة على يد اختصاصي النطق واللغة ضمن فريق متعدد التخصصات، ويبدأ التقييم عادةً بمقابلة الأهل لجمع معلومات عن نمو الطفل وتاريخه الطبي والسلوكي، تليها جلسات ملاحظة مباشرة للطفل.
سيراقب المختص كيفية تفاعل الطفل لغويًا في مواقف مختلفة: كيف يتحدث مع الكبار ومع أقرانه، وكيف يستجيب للتعليمات أو الأسئلة، وهل يستخدم التواصل البصري والإيماءات بشكل مناسب. من المهم تقييم الطفل في أكثر من بيئة (مثلاً في العيادة وفي المدرسة) إن أمكن، للحصول على صورة واقعية عن تواصله اليومي. كذلك قد يُطلب من الوالدين والمعلمين ملء استبيانات معيارية تقيس مهارات التواصل الاجتماعي للطفل وسلوكه في مواقف متعددة.
يشمل التشخيص أيضًا إجراء اختبارات لغوية معيارية لقياس جوانب اللغة المختلفة لدى الطفل، بما فيها القدرة البراجماتية (الاستخدام الاجتماعي للغة) إلى جانب المفردات والنحو والفهم السمعي.
كما قد يستخدم الأخصائي أدوات مخصصة لتقييم التواصل الاجتماعي العملي، مثل مقاييس أو قوائم تحقق تقيس قدرة الطفل على اتباع قواعد المحادثة وفهم التعابير غير المباشرة. سيبحث الفريق التشخيصي خلال التقييم عن دلائل على أن صعوبات الطفل ليست ناتجة عن تأخر عقلي عام أو اضطرابات أخرى. لذلك غالبًا ما يقوم طبيب أو أخصائي نفسي بتقييم القدرات المعرفية للطفل، والتأكد من عدم وجود اضطرابات نمائية شاملة كالتوحّد أو إعاقات سمعية تفسّر مشكلات التواصل.
وتعتمد المعايير الرسمية للتشخيص على وجود صعوبات مستمرة في الاستخدام الاجتماعي للتواصل اللفظي وغير اللفظي تظهر في مراحل الطفولة المبكرة وتؤثر سلبًا على الأداء الاجتماعي أو الأكاديمي، مع التأكد أن هذه الصعوبات ليست نتيجة ضعف عام في الذكاء أو تأخر نمائي شامل أو اضطراب آخر معروف.
بمعنى آخر، يشخَّص الاضطراب عندما يكون الخلل محددًا في براجماتية التواصل ولا يُفسَّر بعوامل أخرى. في العادة، لا يُشخّص الأطفال قبل سن الرابعة أو الخامسة من العمر، لأن المهارات الاجتماعية اللغوية تكون في طور التطور قبل ذلك. بحلول سن 5 سنوات، يصبح معظم الأطفال قادرين على استخدام اللغة بطريقة تكشف هذه الصعوبات على نحو أوضح.
علاج صعوبات اللغة الاجتماعية
فيما يلي ملامح أبرز طرق العلاج المستخدمة:
علاج النطق واللغة
هذا هو الحجر الأساس في خطة علاج اضطرابات اللغة البراجماتية. يعمل أخصائي النطق والتخاطب بشكل فردي مع الطفل (وأحيانًا في جلسات ثنائية أو جماعية) لتطوير مهارات التواصل الاجتماعي عمليًا، ويتضمن ذلك تدريبًا ممنهجًا على مواقف تواصلية متنوعة. على سبيل المثال، قد يقوم الأخصائي بتمثيل الأدوار مع الطفل لتدريبه على بدء محادثة وتحيتها وإنهائها بشكل لائق، وعلى كيفية تبادل الحديث وأخذ الدور والاستماع للمتحدث الآخر دون مقاطعة.
كما يتم تدريبه على الالتزام بموضوع المحادثة وعدم الخروج عنه فجأة. جانب آخر مهم هو تعليم الطفل قراءة وفهم الإشارات الاجتماعية: يستخدم المعالج بطاقات تعبيرات الوجه أو يتظاهر بحالات شعورية مختلفة ليشرح للطفل كيف يميز مشاعر الآخرين من وجوههم ونبرة صوتهم. كذلك يساعد العلاج اللغوي الطفل على تكييف أسلوب كلامه للسياقات المختلفة؛ فقد يتدرب مثلًا على فرق مخاطبة صديق قريب بطريقة غير رسمية مقابل مخاطبة معلم أو شخص كبير بطريقة أكثر احترامًا.
يتم تعزيز استخدام الإيماءات المناسبة والتواصل البصري عبر تمارين خاصة أيضًا. يعمل الأخصائي مع الطفل خطوةً بخطوة، واضعًا أهدافًا محددة يمكن قياس تقدم الطفل فيها (مثل أن ينجح في تبادل 3 أدوار حديث متتالية مع شخص بالغ ضمن لعبة تمثيلية). مع الوقت والممارسة المستمرة، يبدأ الطفل بتطبيق هذه المهارات المكتسبة في حياته اليومية.
تدريب المهارات الاجتماعية الجماعي
إلى جانب الجلسات الفردية، قد يستفيد الطفل جدًا من برامج تدريب جماعية مصممة لتحسين مهارات التواصل الاجتماعي لديه في بيئة طبيعية قدر الإمكان. في مثل هذه البرامج، يُجمع الأطفال الذين لديهم صعوبات متشابهة في مجموعات صغيرة تحت إشراف أخصائي. يقومون بأنشطة وألعاب تتطلب التفاعل، مما يتيح فرصة ممارسة المحادثة وضبط السلوك الاجتماعي مع أقرانهم بشكل عملي.
على سبيل المثال، يمكن أن يتدربوا على لعبة جماعية حيث يتعلمون تكوين صداقات: كأن يتم تمرينهم على كيفية التعارف وتبادل الأسئلة والاستماع للآخرين. كما قد تتضمن الأنشطة تمثيل مواقف اجتماعية (مثل الانضمام لمجموعة لعب جديدة، أو حل خلاف بسيط مع صديق) حتى يجرّب الطفل تلك المواقف ويتعلم إستراتيجيات التعامل معها في جو داعم وآمن.
تدريب حلّ المشكلات الاجتماعية أيضًا جزء من هذه البرامج، مثل تعليم الطفل ماذا يفعل إذا تمسّك بموضوع لا يهتم به الآخرون، وهنا يتعلم إشارات حاجة المستمع لتغيير الموضوع. أظهرت التجارب أن الأطفال غالبًا ما يشعرون براحة أكبر حين يرون أن غيرهم لديه تحديات شبيهة، ويُطبّقون ما يتعلمونه في المجموعة من مهارات في حياتهم الواقعية بثقة أكبر.
التدخلات السلوكية
بعض الأطفال، خصوصًا في الحالات الشديدة أو المصحوبة باضطرابات أخرى كالتوحّد، يمكن أن يستفيدوا من تقنيات العلاج السلوكي لتعليم المهارات الاجتماعية. إحدى أشهر الطرق هي أسلوب تحليل السلوك التطبيقي (ABA)، والذي يقوم على تقسيم المهارة المطلوبة إلى خطوات صغيرة جدًا وتدريب الطفل عليها بشكل تكراري منهجي.
مثلًا، إذا كان الهدف تعليم الطفل تحية الآخرين، يتم تجزئة ذلك إلى: النظر إلى الشخص، والابتسام، وقول عبارة التحية، والانتظار للرد… ويتم تدريب كل خطوة على حدة مع تعزيز إيجابي (مكافأة) حين ينجح الطفل في أدائها. التدخلات السلوكية مفيدة أيضًا في تقليل السلوكيات غير الملائمة (مثل المقاطعة المتكررة) عبر تعزيز البدائل المناسبة.
بمرور الوقت، ومع التعزيز الإيجابي المستمر للسلوكيات المرغوبة، يكتسب الطفل أنماط تواصل أكثر ملاءمة. من المهم أن تكون هذه البرامج السلوكية مرنة ومصممة وفق احتياجات كل طفل، وأن تُنفَّذ ببيئة طبيعية قدر الإمكان (كالبيت أو الفصل المدرسي) لضمان نقل المهارة إلى الحياة اليومية.
دعم الأسرة والمدرسة
تلعب الأسرة دورًا محوريًا في نجاح العلاج، وكذلك المدرسة. تؤكد التوصيات على أهمية إشراك الأهل في الخطة العلاجية منذ البداية. يجب تدريب الوالدين ومقدمي الرعاية على فهم طبيعة صعوبة الطفل وكيفية دعمه، بحيث يصبح التواصل معه في المنزل امتدادًا للجلسات العلاجية وليس منفصلاً عنها.
بالمثل، يجدر أخذ اختلافات الثقافة والعادات الاجتماعية بالاعتبار؛ فبعض القواعد التواصلية تختلف من بيئة لأخرى، وعلى العلاج أن يكون واعيًا لهذه الخلفية الثقافية للأسرة. في المنزل، يمكن للأهل القيام بالكثير لمساعدة طفلهم على اكتساب مهارات التواصل الاجتماعي، مثلاً:
- قراءة القصص ومناقشتها: قراءة قصة مع الطفل ثم طرح أسئلة حول أحداثها وشخصياتها. مثلاً: «ماذا فعلت الشخصية الفلانية؟ ولماذا؟ برأيك كيف شعرت عندما حدث ذلك؟». هذه الأسئلة تساعد الطفل على ممارسة فهم السياق والمشاعر ومعاني الكلام غير المباشر ضمن القصة، في جو تفاعلي ممتع.
- اللعب مع الأقران تحت الإشراف: تنظيم مواعيد لعب تجمع الطفل مع أطفال آخرين من عمره في بيئة مشجعة. يمكن التخطيط لألعاب جماعية بسيطة تضمن مشاركة الجميع، مع تبادل دور القيادة في اللعبة بين الأطفال. خلال اللعب، يمكن توجيه الطفل بلطف إذا ما انخرط في الحديث عن نفسه فقط أو تجاهل قواعد التفاعل، مع تعزيز إيجابي عندما يتفاعل بشكل مناسب. من المفيد تغيير مكان اللعب أحيانًا (في المنزل، في حديقة، في منزل طفل آخر) لتعويد الطفل على التكيف في بيئات مختلفة.
- تطبيق مهارات التواصل أثناء اللعب الأسري: يشجَّع الوالدان على تخصيص وقت للعب التفاعلي مع الطفل في المنزل، يتضمن ألعابًا تحتاج لتناوب الأدوار (مثل لعبة لوحية أو تمثيل أدوار شخصيات). أثناء اللعب، يتحدث الأهل مع الطفل عن مشاعره وما يفكر به، ويطرحون عليه أسئلة لتعزيز الحوار («ماذا ستفعل الآن؟ لماذا اخترت ذلك؟»). عليهم أيضًا مدح أي سلوك تواصلي إيجابي يصدر عنه كأن يستمع جيدًا أو يعبر بوضوح. هذه اللحظات تشكل تدريبًا طبيعيًا ومهمًا جدًا، بالإضافة إلى أنها تقوّي العلاقة العاطفية مع الطفل وتمنحه الثقة بنفسه.
- في المدرسة: يمكن للمعلمين أيضًا تقديم دعم كبير. من المفيد إبلاغ معلم الصف بحالة الطفل لكي يراعي ذلك في الفصل. على سبيل المثال، قد يجلس المعلم الطفل بالقرب منه لتشجيعه على المشاركة، أو يضعه في مجموعة صغيرة مع زملاء متعاونين. بعض الأطفال يستفيدون من وجود خطة تربوية فردية (IEP) تشمل أهدافًا خاصة بالتواصل الاجتماعي (مثل أن يبادر بتحية زملائه كل صباح، أو أن يطرح سؤالاً واحدًا على الأقل أثناء نشاط جماعي). كما يمكن لأخصائي النطق واللغة التعاون مع المدرسة لتوفير جلسات تدريب داخل الصف أو دعم المعلمين بإستراتيجيات تواصلية.
خاتمة
في الختام، يجدر التأكيد على أن اضطرابات اللغة البراجماتية، على الرغم من كونها تحديًا يؤثر على تفاعل الطفل واندماجه، هي حالة قابلة للتحسّن بشكل ملحوظ مع التشخيص الصحيح والتدخل المناسب. قد يشعر الأهل بالقلق إذا لاحظوا أن طفلهم يجد صعوبة في تكوين صداقات أو فهم ما يقصده الآخرون ضمنيًا، لكن معرفة اسم المشكلة هي الخطوة الأولى لحلها.
وأخيرًا، ننصح الأهل الذين يساورهم الشك حيال مهارات طفلهم الاجتماعية اللغوية بألا يترددوا في استشارة مختص (طبيب أطفال نمو وسلوك أو أخصائي نطق ولغة) لتقييم الحالة.
الأسئلة الشائعة
ما هو مثال على اضطراب اللغة البراجماتية؟
على سبيل المثال، قد ترى الطفل يواجه صعوبة في اتباع قواعد المحادثة البسيطة؛ كأن يتحدث بشكل مسترسل دون توقف أو لا يترك مجالًا للآخرين للرد، أو ربما لا يفهم تعابير الوجه والإشارات غير اللفظية في الموقف. مثال آخر شائع هو أخذ الكلام بالمعنى الحرفي دائمًا: فإذا قلتُ لطفل يعاني من هذا الاضطراب عبارة مثل «إمسك لسانك» (في سياق حضّه على السكوت)، قد ينظر إليك بحيرة فعلية أو يمسك لسانه بيده لأنه لم يفهم أنك تقصد مجازًا أن يلتزم الصمت. هذه المواقف اليومية البسيطة تظهر مشكلة في فهم واستخدام اللغة في السياق الاجتماعي المناسب.
ما الفرق بين اضطراب اللغة البراجماتية واضطراب طيف التوحد؟
يشترك الاثنان في أن الطفل يواجه صعوبة في التواصل الاجتماعي، لكن اضطراب طيف التوحّد أشمل وأوسع نطاقًا. الطفل المصاب بالتوحد يعاني أيضًا من سلوكيات واهتمامات متكررة أو نمطية (مثل الاهتمام المفرط بموضوع واحد، أو تأدية حركات تكرارية كرفرفة اليدين) بالإضافة إلى مشكلات التواصل.
أما في اضطراب اللغة البراجماتية، فلا توجد تلك السلوكيات النمطية أو الاهتمامات الخاصة الغريبة؛ المشكلة محصورة في جانب اللغة الاجتماعي فقط. لذلك يُشخّص اضطراب التواصل الاجتماعي (البراجماتي) عادة عندما يتم التأكد أن الطفل لا يحقق معايير تشخيص التوحّد لكنه مع ذلك يواجه صعوبات كبيرة في التفاعل الكلامي والاجتماعي.
هل اضطراب اللغة البراجماتية هو نفسه اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD)؟
لا، هذا اضطراب وذاك اضطراب آخر مختلف. اضطراب التواصل الاجتماعي يتعلق أساسًا باللغة والتفاعل، في حين أن اضطراب فرط الحركة يتعلق بقدرة الطفل على التركيز والتحكم بالسلوك. مع ذلك قد يبدو بعض أطفال المصابين بـADHD وكأن لديهم مشكلات براجماتية، لكنها تنبع غالبًا من اندفاعهم أو تشتت انتباههم وليس من قصور حقيقي في فهم اللغة الاجتماعية. على سبيل المثال، الطفل مفرط الحركة ربما يقاطع غيره كثيرًا لأنه لا يطيق الانتظار (وهذا سلوك يؤثر على التواصل)، لكن السبب هنا هو الاندفاع وليس عدم فهم قواعد المحادثة. الجدير بالذكر أن الاضطرابين يمكن أن يجتمعا في نفس الطفل، وعندها يحتاج إلى دعم مزدوج من الناحيتين.
هل يتحسّن الطفل المصاب باضطراب اللغة البراجماتية مع العمر؟
نعم، يمكن لكثير من الأطفال تحقيق تحسّن ملحوظ مع التدخل والدعم المناسبين. هذا الاضطراب هو حالة نمائية، أي أنه يستمر مع نمو الطفل لكن أعراضه ليست ثابتة على مدار العمر. العديد من الأطفال الذين يتلقون علاجًا مبكرًا ومكثفًا يكتسبون مهارات جديدة تدريجيًا ويتغلبون على كثير من صعوباتهم.
قد لا يصبح الطفل «اجتماعيًا محترفًا» بين ليلة وضحاها، لكن على مدار الأشهر والسنوات يمكن أن يتقدم من طفل يجد صعوبة في إجراء حوار بسيط إلى شخص قادر على التفاعل بشكل أقرب للطبيعي. المفتاح هو الاستمرار في الدعم –سواء عبر جلسات التخاطب أو في المنزل والمدرسة– وعدم اليأس من بطء التحسن في بعض المراحل.