تخيّل أن شخصًا ما أصيب أو مرّ بمشكلة صحية جعلته غير قادر على القيام بمهام يومية بسيطة كارتداء ملابسه أو إعداد وجبة طعام أو حتى حمل أشيائه الخاصة.، فجأةً تصبح هذه الأنشطة الروتينية تحديات يومية، وهنا يأتي دور أخصائي العلاج الوظيفي!.
يهدف هذا التخصص إلى مساعدة الأفراد على استعادة قدرتهم أو تحسين مهاراتهم في أداء أنشطتهم الحياتية اليومية بشكل مستقل قدر الإمكان. ببساطة، يعتمد العلاج الوظيفي على استخدام أنشطة هادفة ومهمة بالنسبة للمريض كوسيلة علاجية، سواء كان ذلك في نطاق العناية بالنفس، أو العمل، أو التعليم، أو الترفيه.
ويعمل أخصائي العلاج الوظيفي مع مختلف الفئات العمرية من الأطفال إلى كبار السن، ويركز على تعليم المهارات اللازمة للعيش باستقلالية بقدر المستطاع. على سبيل المثال، قد يُعلِّم الأخصائي الشخص طريقة جديدة لارتداء ملابسه بعد إصابة تحدّ من حركته، أو استخدام أدوات مُعينة تجعل تناوُل الطعام أو المشي أسهل رغم وجود تحديات صحية.
مهام ودور أخصائي العلاج الوظيفي
يقوم أخصائي العلاج الوظيفي بعدة مهام جوهرية لتحقيق هدف دعم استقلالية المريض وتحسين نوعية حياته، فيما يلي أبرزها:
- تقييم احتياجات المريض ووضع خطة فردية: يبدأ الأخصائي بتقييم شامل لحالة المريض لمعرفة نقاط القوة والصعوبات في أداء الأنشطة اليومية، يشمل ذلك مراقبة المريض أثناء قيامه بمهام معينة وطرح أسئلة تفصيلية لفهم التحديات التي يواجهها، وبناءً على التقييم، يضع خطة علاجية مُخصّصة بأهداف واضحة قصيرة وطويلة المدى تناسب حالة الفرد.
- تدريب المريض على أنشطة الحياة اليومية: أحد أهم أدوار المعالج الوظيفي هو تعليم المهارات المعيشية العملية التي تمكّن الشخص من الاعتناء بنفسه، يشمل ذلك مهارات أساسية مثل تناول الطعام والشراب بشكل مستقل، وارتداء الملابس دون مساعدة، واستخدام المرحاض والاستحمام بأمان، والتنقل داخل المنزل وخارجه، ويحرص على تدريب المريض خطوة بخطوة حتى يتمكن من أداء هذه الأنشطة بنفسه قدر الإمكان دون الاعتماد على الآخرين.
- تحسين المهارات الحركية (الدقيقة والكبيرة): يعمل مختص العلاج الوظيفي أيضًا على تنمية القدرات الحركية لدى المريض، يشمل ذلك تحسين المهارات الحركية الدقيقة (حركة اليدين والأصابع) اللازمة لمهام مثل الكتابة أو ربط الأزرار، بالإضافة إلى تطوير المهارات الحركية الكبيرة كالمشي وتحريك الذراعين ورفع الأشياء، وقد يستخدم الأخصائي تمارين وتقنيات متنوعة لزيادة قوة العضلات ومرونتها إذا كان ذلك ضروريًا لأداء نشاط معين، على سبيل المثال، يمكن أن يطلب من المريض محاولة التقاط كرات صغيرة بأصابعه لتقوية عضلات اليد وتحسين التناسق بين العين واليد.
- تنمية المهارات الإدراكية والذهنية: لا يقتصر دور الأخصائي على الجانب الجسدي فقط، بل يهتم أيضًا بـ تحسين القدرات الذهنية والإدراكية للمريض، فقد يستخدم تمارين لتحسين التركيز والذاكرة وحل المشكلات، مثل ألعاب الذاكرة أو تصنيف الأشياء، بهدف تطوير المهارات المعرفية للمريض، ويساعد ذلك الشخص على التخطيط والتنظيم واتخاذ القرارات في حياته اليومية بسهولة أكبر، فعلى سبيل المثال، قد يشجّع الأخصائي كبير السن الذي يعاني من ضعف الذاكرة على كتابة قوائم لمهامه اليومية لتذكّره بالأشياء الضرورية.
- توفير الأجهزة المساندة وتعديل البيئة: من مهام المعالج الوظيفي تهيئة بيئة المريض وجعلها أكثر ملاءمة لاحتياجاته الصحية، ويشمل ذلك توصية واستخدام أدوات مساعدة خاصة وتمارين تعويضية. على سبيل المثال، قد يوصي الأخصائي بتركيب قضبان للإمساك في حمام شخص مسنّ لتوفير الدعم ومنع السقوط، أو استخدام كرسي حمّام مرتفع ومقاعد خاصة لتسهيل الجلوس والوقوف. كذلك قد يقترح تعديلات منزلية أخرى مثل تحسين الإضاءة وتثبيت سطوح غير قابلة للانزلاق على الأرضيات وإعادة ترتيب الأثاث لتسهيل حركة المريض وتقليل مخاطر التعثر.، فالهدف هو تمكين المريض من ممارسة حياته بأمان واستقلالية في منزله ومحيطه اليومي رغم أي إعاقات جسدية أو حسيّة.
- الدعم النفسي والاجتماعي وإعادة الاندماج: يهتم العلاج الوظيفي أيضًا بمساعدة المرضى على التكيف مع حالتهم الصحية نفسيًا واجتماعيًا. فبالنسبة لمن يعانون من اضطرابات نفسية أو عقلية، يمكن للأخصائي أن يساعدهم في بناء روتين يومي صحي وتنمية مهارات المشاركة الاجتماعية والمهنية. فبالنسبة للأطفال ذوي اضطرابات النمو أو صعوبات التعلم، يركز الأخصائي على تعزيز مشاركتهم في المدرسة والتفاعل مع أقرانهم عبر تطوير مهارات التواصل والمهارات الاجتماعية إلى جانب المهارات الحركية والإدراكية.
- تثقيف وتدريب أهالي المريض: يلعب أخصائي العلاج الوظيفي دورًا مهمًا في إرشاد أفراد العائلة ومقدمي الرعاية بكيفية دعم المريض، يشمل ذلك تدريب الأهل على الأساليب الصحيحة لمساعدة المريض في نشاطاته اليومية، فعلى سبيل المثال، يعلّمهم الطريقة الآمنة لمساعدة المريض على الأكل وارتداء الملابس والاستحمام، وكيفية نقل المريض من السرير وإليه بشكل صحيح، وتنظيم أدويته، وتحسين سلامة المنزل لمنع السقوط (مثل إزالة العقبات وتثبيت مقابض داعمة)، وكذلك طريقة استخدام الأجهزة المساعدة والتواصل الفعال مع المريض.
كيف يتعاون الأهل مع أخصائي العلاج الوظيفي؟
لتحقيق أقصى استفادة من برامج العلاج الوظيفي، فإن تعاون أسرة المريض مع الأخصائي يعتبر أمرًا مهمًا، فدور الأهل لا يقل أهمية عن دور المعالج نفسه في دعم المريض خلال رحلة التأهيل، فيما يلي بعض الطرق التي يمكن للأهالي من خلالها مساعدة أبنائهم أو ذويهم من المرضى بالتنسيق مع أخصائي العلاج الوظيفي:
- التعلّم حول حالة المريض واحتياجاته: يُنصح بأن يحرص الأهالي على فهم طبيعة حالة ابنهم أو قريبهم والتحديات التي يواجهها. يمكنهم طرح الأسئلة على أخصائي العلاج الوظيفي لفهم محدوديات المريض الحالية وما يستطيع القيام به وما يصعب عليه. كلما كان الأهل أكثر دراية بحالة المريض وما يمر به، كانوا أقدر على دعمه نفسيًا وعمليًا.
- متابعة الإرشادات المنزلية وتنفيذ التمارين: يضع الأخصائي غالبًا برنامجًا منزليًا من التمارين أو الأنشطة للمريض ليمارسها بين الجلسات العلاجية. على الأهل التأكد من تنفيذ هذه التمارين بانتظام وفق توجيهات الأخصائي، على سبيل المثال، إذا أوصى المعالج بتمارين معينة لليد أو تمارين توازن تُجرى يوميًا، فينبغي تشجيع المريض على القيام بها والمساعدة في تهيئة الوقت والمكان المناسب لذلك، إذ أن الاستمرارية في التدريب المنزلي تسرّع من تحسّن الحالة وتعزز اكتساب المهارات.
- تهيئة البيئة المنزلية لراحة وأمان المريض: يلعب الأهل دورًا مهمًا في تعديل بيئة المنزل بما يتناسب مع احتياجات المريض بناءً على نصائح الأخصائي، وقد يشمل ذلك إزالة العقبات وتثبيت بسط مانعة للانزلاق على الأرضيات الرطبة، ولصق حواف السجاد لتجنب تعثر المريض، كذلك تركيب مقابض ودعائم في الحمام أو بجانب السرير لمساعدة المريض على الحركة بأمان، وهذه التعديلات تسهم في وقاية المريض من الإصابات وتعطيه ثقة أكبر أثناء التنقل بمفرده في المنزل.
- المشاركة الفعالة والتواصل المستمر مع الأخصائي: يجب أن يكون هناك تواصل منتظم بين الأسرة والمعالج الوظيفي، فمن المهم إبلاغ الأخصائي بأي تطورات يلاحظها الأهل على حالة الشخص في المنزل –سواء تحسّن في مهارة معينة أو مواجهة صعوبة جديدة– حتى يتمكن الأخصائي من تعديل الخطة العلاجية إذا لزم الأمر، وكذلك يفضَّل حضور أحد أفراد الأسرة أحيانًا بعض جلسات العلاج (إن أمكن) أو الاجتماعات الدورية مع الأخصائي للحصول على تعليمات مباشرة حول كيفية التعامل مع الشخص في المنزل.
- تشجيع المريض والتحلي بالصبر: الدعم النفسي جزء أساسي من التأهيل. على الأهل تحفيز المريض وتشجيعه على الاعتماد على نفسه قدر الإمكان في أداء المهام، حتى لو تطلّب ذلك وقتًا أطول أو جهدًا أكبر، وينبغي الثناء على أي تقدم يحرزه –مهما كان بسيطًا– لتعزيز ثقته بنفسه، وفي المقابل، عند حدوث إخفاقات أو لحظات إحباط لدى الشخص، يجب على الأسرة التحلي بالصبر وتقديم الدعم العاطفي الإيجابي، إذ أن خلق بيئة مشجعة خالية من النقد القاسي يساعد المريض على الاستمرار في المحاولة وتجاوز العقبات النفسية.
الحالات التي يتعامل معها أخصائي العلاج الوظيفي ودوره في كل حالة
يعمل أخصائي العلاج الوظيفي مع نطاق واسع من الفئات والحالات الصحية، ويختلف دوره بحسب طبيعة التحدي الذي يعاني منه المريض، فيما يلي أشهر الحالات المعروفة، مع شرح مبسّط لدور الأخصائي في كل واحدة:
أولًا: اضطرابات النمو عند الأطفال
يُعد الأطفال من أكثر الفئات التي تستفيد من العلاج الوظيفي، خصوصًا الذين يعانون من اضطرابات النمو مثل التوحد، وفرط الحركة وتشتت الانتباه، وتأخر النمو الحركي والإدراكي، أو اضطرابات المعالجة الحسية. وفي هذه الحالات، يركّز الأخصائي على بناء المهارات الأساسية التي يحتاجها الطفل للاندماج في حياته اليومية سواء داخل المنزل أو المدرسة.
على سبيل المثال، قد يعمل الأخصائي مع طفل يعاني من ضعف المهارات الحركية الدقيقة من خلال تدريبه على مسك القلم بطريقة صحيحة والكتابة دون ألم، أو مساعدته على استخدام الملعقة والكوب دون انسكاب. وفي حالات اضطرابات التوحد، يتدخل الأخصائي لتحسين مهارات التواصل واللعب التفاعلي، ويقدّم «برنامج العلاج الحسي» الذي يساعد الطفل على تقليل حساسيته المفرطة أو المنخفضة من الأصوات أو اللمس أو الروائح.
ثانيًا: إصابات الجهاز العصبي
الإصابات العصبية من أكثر الحالات التي يُظهر فيها العلاج الوظيفي تأثيرًا كبيرًا، مثل السكتات الدماغية، وإصابات الحبل الشوكي، وإصابات الدماغ الناتجة عن الحوادث، فعند تعرض الشخص لجلطة مثلًا، يفقد القدرة على أداء مهام كان يقوم بها تلقائيًا سابقًا كالأكل، والكتابة، والاستحمام، أو التحكم بيده اليمنى.
هنا يأتي دور الأخصائي في إعادة تدريب الدماغ والجسم على أداء هذه المهام من خلال تمارين موجهة تعتمد على التكرار والحركة الهادفة، وقد يدرِّب المريض على طريقة جديدة لاستخدام يده المتضررة، أو يعلمه أساليب تعويضية تعتمد على اليد الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، يقدّم الأخصائي توصيات حول الأجهزة المساعدة مثل الأدوات ذات المقابض العريضة، أو الجبائر التي تثبت المعصم، أو الأدوات التي تسهّل التوازن عند الوقوف.
ثالثًا: الحالات العضلية الهيكلية
بعد الكسور أو العمليات الجراحية —مثل تغيير مفصل الركبة أو الورك— يدخل العلاج الوظيفي كمرحلة أساسية من مراحل التأهيل، فالمريض هنا قد يستطيع الحركة بدرجة محدودة، لكنه لا يزال غير قادر على العودة إلى حياته الطبيعية، فيعمل الأخصائي على استعادة قوة العضلات ومدى الحركة، إلا أن تركيزه الأساسي يكون على كيفية تطبيق هذه الحركة في الحياة اليومية.
على سبيل المثال، لا يكتفي الأخصائي بتمرين الذراع أو الساق، بل يدرّب المريض على كيفية رفع الأشياء من الأرض دون أن يضغط على المفصل المصاب، أو كيفية الجلوس والنهوض من الكرسي بطريقة آمنة، أو حمل الأغراض المنزلية دون إحداث ألم، كما يساعد الأشخاص الذين فقدوا أحد أطرافهم على التكيف مع الطرف الصناعي واستخدامه داخل المنزل والعمل، لتقليل اعتمادهم على الآخرين.
رابعًا: الاضطرابات النفسية وتأثيرها على الحياة اليومية
العلاج الوظيفي ليس مقتصرًا على الإصابات الجسدية؛ إذ يلعب دورًا مهمًا مع الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، ففي كثير من هذه الحالات، يفقد المريض القدرة على تنظيم يومه أو الاهتمام بنفسه مما يؤثر على أو الحفاظ على علاقاته الاجتماعية وجودة حياته.
هنا يساعد الأخصائي المريض على بناء روتين يومي صحي، ووضع جداول للمهام، وتطوير مهارات إدارة الوقت، وتنمية القدرة على التركيز والبدء بالمهام وإنهائها، كما يعمل على إعادة إشراك المريض في الأنشطة الاجتماعية تدريجيًا لزيادة ثقته بنفسه.
خامسًا: كبار السن وتأثير الشيخوخة على الاعتماد على النفس
مع التقدم في العمر، تبدأ العديد من المهارات الجسدية والإدراكية بالضعف، وقد يعاني كبار السن من مشاكل في الذاكرة، أو توازن غير مستقر، أو صعوبة في الحركة، أو أمراض مثل الزهايمر والخرف. يعمل العلاج الوظيفي هنا على الحفاظ على أكبر قدر ممكن من استقلالية الشخص، وتأخير الحاجة للاعتماد على الآخرين.
يقوم الأخصائي بتعليم كبير السن طرقًا آمنة للجلوس، والمشي داخل المنزل، واستخدام الحمام، وتحسين المهارات الإدراكية عبر تمارين الذاكرة والتوجيه الذهني. كما يقيّم المنزل بالكامل ويقدّم توصيات لتقليل مخاطر السقوط.
سادسًا: اضطرابات المعالجة الحسية
اضطرابات الحسّية من أكثر الحالات التي تسبب تحديات كبيرة للأطفال، خصوصًا الذين يعانون من حساسية شديدة للروائح أو الأصوات أو اللمس، أو بالعكس، يبحثون عن الإحساس المفرط مثل القفز المستمر أو الصراخ للحصول على مدخلات حسية.
سابعًا: الاضطرابات الإدراكية والمعرفية
يشمل هذا النوع من الحالات مشاكل الذاكرة، وصعوبات التخطيط والتنظيم، والقدرة على اتخاذ القرار، سواء كانت ناتجة عن إصابات دماغية، أو اضطرابات عصبية، أو تقدم في العمر. يعمل الأخصائي على تحسين الوظائف المعرفية عبر التدريبات الإدراكية، مثل ألعاب الذاكرة، وحل المشكلات، وتمارين الانتباه، وتمارين التفاعل بين العين واليد.
كما يركز على التعويض الإدراكي، وهو تعليم المريض استخدام وسائل تساعده على التذكر: مثل الجداول، والملصقات، والمفكرات الإلكترونية، والتنبيهات الرقمية.
ثامنًا: الإعاقات الحركية والخلقية الدائمة
الأطفال الذين يعانون من شلل دماغي، أو متلازمة داون، أو إعاقات خلقية في الأطراف يحتاجون إلى تدخل طويل الأمد، إذ يعمل العلاج الوظيفي على تهيئة الطفل ليصبح قادرًا على القيام بمهامه اليومية رغم الإعاقة، من خلال تحسين التحكم بالحركة، والتعليم التدريجي للمهارات الحياتية مثل العناية بالنفس، واللعب التفاعلي، واستخدام الأجهزة الداعمة، وتعلم وضعيات جلوس صحيحة تمنع التشوهات العضلية والحركية.
أخيرًا، يمثل أخصائي العلاج الوظيفي شريكًا أساسيًا للأسرة في رحلة رعاية المريض وتأهيله، فمن خلال وعي الأهل بدور هذا الأخصائي والتعاون معه، يمكن تحقيق نتائج ملحوظة في تحسين استقلالية الشخص وقدرته على الانخراط في حياته اليومية.


