تصوّر طفلك الصغير منهمكًا في ترتيب قطع الليجو وفق تسلسل محدد، بينما يناديه الآخرون باسمه فلا يلتفت؛ يبدو وكأنه في عالمه الخاص. في حديقة الألعاب، قد يكرر عبارة سمعها في برنامج كرتوني مرارًا، بدلًا من أن يجيب عندما يسأله طفل آخر عن اسمه. مثل هذه المشاهد قد تكون مألوفة لدى بعض الأسر التي لديها طفل يعاني من اضطراب طيف التوحد الذي يؤثر على طريقة تواصل الطفل وتفاعله مع من حوله. عادةً ما تظهر علاماته المبكرة خلال أول سنتين من عمر الطفل، ومن علامات التوحد المبكرة الشائعة: تأخر الكلام أو ميل الطفل إلى تكرار الكلمات والعبارات بدلًا من الكلام التلقائي.
هذه الصعوبات اللغوية قد تجعل الطفل يبدو وكأنه يفضل العزلة أو يجد صعوبة في التعبير عما يريد. في هذا المقال، سنشرح أنواع اضطرابات النطق واللغة المرتبطة بالتوحد الأكثر شيوعًا مع أمثلة واقعية، ونحلّل تأثيرها على تواصل الطفل وتطوره الاجتماعي. سنقدّم أيضًا نصائح عملية لمساعدة الأهالي على دعم أطفالهم لغويًا والسعي للتدخل العلاجي المناسب.
ما هو اضطراب طيف التوحد وكيف يؤثر على التواصل؟
اضطراب طيف التوحد هو اضطراب نمائي يؤثر على التواصل الاجتماعي والسلوك. الطفل المصاب بالتوحد قد يتمتع بقدرات وملكات فريدة، لكنه في المقابل يرى العالم من زاوية مختلفة ويحتاج إلى دعم خاص في التواصل. يواجه هؤلاء الأطفال صعوبة في فهم وتبادل الإشارات الاجتماعية؛ فقد يتجنب التواصل البصري أو لا يستجيب عند مناداته باسمه كما يفعل أقرانه.
كما تظهر لديهم سلوكيات نمطية متكررة واهتمامات ضيقة. وعلى الصعيد اللغوي، يتراوح التواصل اللفظي لدى أطفال التوحد بين تأخر النطق وضعف استخدام اللغة بشكل طبيعي – فقد ينطق بعض الأطفال كلمات قليلة فقط في سن يفترض أن يكون لديهم حصيلة كلمات أكبر، أو قد يتحدثون بطلاقة لكن بطريقة غير مناسبة للموقف. بعبارة أخرى، قد يواجه الطفل المصاب بالتوحد تحديات واضحة في التواصل اللفظي والتفاعل الاجتماعي منذ الصغر.
رغم هذه التحديات، من المهم التذكير بأن طيف التوحد واسع وتتفاوت شدة الأعراض من طفل لآخر. فبينما قد يكون البعض غير ناطق إطلاقًا في سن معينة، يستطيع آخرون الكلام بجمل كاملة لكنهم يواجهون صعوبة في إدارة حوار متبادل. فهم طبيعة اضطرابات النطق واللغة المرتبطة بالتوحد يساعد الأهل على التعرف المبكر على هذه السمات والتعامل معها بفعالية.
أنواع اضطرابات النطق واللغة عند أطفال التوحد

يعاني كثير من الأطفال ضمن طيف التوحد من اضطرابات في النطق أو اللغة بدرجات متفاوتة، سنشرح كل منها بالتفصيل مع أمثلة لمساعدة الأهل في التعرّف على هذه الأعراض:
1. التأخر في اللغة التعبيرية (ضعف التعبير اللفظي)
يُقصد بالتأخر في اللغة التعبيرية أن الطفل يجد صعوبة في التعبير بالكلام عما يفكر به أو يحتاجه. قد يكون قادرًا على لفظ الأصوات والكلمات بشكل صحيح، لكنه لا يستطيع ترتيبها في جمل مفيدة أو يستخدم عددًا محدودًا جدًا من الكلمات للتعبير.
على سبيل المثال، قد يبلغ الطفل الثالثة من العمر وهو لا يزال يستخدم كلمات مفردة للإشارة إلى ما يريد (يقول “ماء!” عندما يعطش بدلًا من “أريد ماء”). في مواقف أخرى، قد يكتفي بالإشارة أو البكاء للتعبير عن احتياجه لأن قدرته اللفظية لا تسعفه. هذا الضعف في التعبير اللفظي يسبب إحباطًا للطفل؛ إذ يشعر بعدم القدرة على إيصال رسالته، مما قد يؤدي إلى نوبات غضب أو انسحاب اجتماعي.
من الشائع أن يتأخر الطفل المصاب بالتوحد في النطق مقارنةً بأقرانه، بعض الأطفال قد لا ينطقون كلمتهم الأولى في العمر المتوقع أو يظلون لفترة أطول من المعتاد قبل تكوين جملة مفيدة. في الحالات الشديدة ضمن الطيف، قد يكون التأخر في اللغة ملحوظًا جدًا لدرجة غياب اللغة المنطوقة تمامًا لدى الطفل.
تخيّل مثلًا طفلًا في الرابعة من عمره لا يستطيع أن يقول ما يشعر به بأي كلمات؛ مثل هذه الحالة تتطلب تدخلًا متخصصًا لمساعدة الطفل على اكتساب مهارات التواصل البديلة ريثما تتطور لغته المنطوقة. الجدير بالذكر أن التأخر التعبيري لا يعني نقصًا في ذكاء الطفل أو عدم فهمه للأمور، بل هو قصور في القدرة على تحويل الأفكار إلى كلمات. كثير من أطفال التوحد يملكون حصيلة فهم أكبر مما يعبرون عنه لفظيًا.
2. التأخر في اللغة الاستقبالية (ضعف فهم اللغة)
اللغة الاستقبالية هي قدرة الطفل على فهم الكلام واللغة الموجّهة إليه. عندما يكون لدى الطفل تأخر في اللغة الاستقبالية، نجد أنه لا يستوعب ما يقال له بالسرعة أو الدقة المتوقعة لعمره.
قد يبدو وكأنه لا يسمع أو لا ينتبه للكلام، فيكرر الوالد الطلب نفسه مرات عديدة دون استجابة واضحة من الطفل. في الواقع، المشكلة ليست في السمع (طالما تم استبعاد مشكلات السمع طبيًا) وإنما في معالجة وفهم اللغة. على سبيل المثال، إذا قيل للطفل “اجمع ألعابك وضعها في الصندوق ثم تعال إليّ”، قد ينفذ جزءًا واحدًا فقط من التوجيه (كأن يجمع الألعاب ويظل واقفًا) لأنه لم يفهم تسلسل الخطوات كاملًا.
وقد تشمل علامات التأخر الاستقبالي أيضًا عدم استجابة الطفل عند مناداته باسمه أو عدم اتباعه للأوامر البسيطة. أحيانًا يعتقد الأهل في البداية أن طفلهم لديه مشكلة سمعية لأنه لا يرد عند مناداته أو لا ينفذ التعليمات، لكن السبب يكون صعوبة الفهم وليس ضعف السمع.
تخيّل والدة تقول لطفلها “أحضر حذاءك من الغرفة ثم البس معطفك” فلا يقوم الطفل بأي منهما لأنه تاه وسط الكلمات ولم يدرك المطلوب منه. هذا التأخر في الفهم يؤثر سلبًا على تواصل الطفل؛ فقد يفوّت عليه الكثير من التوجيهات التعليمية أو الفرص الاجتماعية لأنه ببساطة لم يفهم ما يُطلب منه.
من ناحية أخرى، بعض الأطفال المصابين بالتوحد يفهمون اللغة حرفيًا جدًا؛ إذا قيل لهم مثلاً “ها هو يأتي بعد قليل”, قد لا يدركون المقصود بأنه سينتظر قليلاً. هذه الصعوبة في فهم التعابير المجازية أو التعليمات المركبة هي جزء من اضطراب اللغة الاستقبالية المرتبط بالتوحد.
3. المصاداة اللفظية (الإيكولاليا)
المصاداة اللفظية أو الإيكولاليا هي ظاهرة تكرار الكلام عند الطفل لما سمعه من كلمات أو عبارات دون إدراك كامل للمعنى في كثير من الأحيان. هذه السمة شائعة لدى الأطفال المصابين بالتوحد.
قد يقوم الطفل بترديد جملة سمعها تَوًّا حال سماعها (إيكولاليا فورية)، أو يعيد عبارات مألوفة بعد ساعات أو أيام في مواقف مختلفة (إيكولاليا متأخرة). فعلى سبيل المثال، إذا سأل أحد الوالدين الطفل “هل تريد أن تأكل؟” قد يكرر الطفل السؤال ذاته (“تريد أن تأكل؟”) بدلًا من الإجابة بنعم أو لا. وفي موقف آخر، قد يردد الطفل مقطعًا من إعلان تلفزيوني أو أغنية مرارًا وتكرارًا أثناء لعبه.
من منظور الوالدين، قد يبدو هذا السلوك غريبًا أو بلا معنى، لكن للإيكولاليا أدوار محتملة مهمة في تواصل الطفل المصاب بالتوحد. أحيانًا يكون التكرار محاولة بدائية من الطفل للمشاركة في الحوار عندما لا يعرف ماذا يقول، أو وسيلة لتأكيد ما سمعه. وفي أحيان أخرى، قد يكون هذا التكرار وسيلة للتحفيز الذاتي أو لتهدئة القلق والتعبير عن المشاعر بطريقة غير مباشرة.
تجدر الإشارة إلى أن الصدى اللفظي يمكن أن يكون خطوة إيجابية في تطور لغة الطفل المصاب بالتوحد، فبعض الأطفال يتعلمون عبر تكرار العبارات ثم تدريجيًا يبدأون بتعديلها واستخدامها للتواصل الحقيقي. مع التدخل والتدريب المناسب، يمكن توجيه الإيكولاليا لتصبح أكثر وظيفية (مثل تدريب الطفل على تكرار السؤال ثم الإجابة عليه بدلًا من الاكتفاء بترديده).
كما يمكن تعليم الطفل طرقًا أخرى للتواصل عندما تكون الإيكولاليا غير كافية. من الناحية العملية، يُنصح الأهل بالمراقبة لفهم الغرض من التكرار: هل الطفل يكرر لأنه لم يفهم السؤال؟ أم لأنه يستمتع بالصوت؟ أم لأنه يريد شيئًا ولكنه لا يعرف كيف يطلبه؟ ففهم الدافع يساعد في توجيه الإستجابة الملائمة.
الجدير بالذكر أيضًا أن الصدى اللفظي قد يكون فوريًا أو متأخرًا؛ فقد يكرر الطفل الكلام مباشرة أو يعيده بعد فترة طويلة من سماعه، وهذا يفسر أحيانًا لماذا ينطق الطفل عبارة خارج سياقها الظاهر – ربما يكون قد سمعها سابقًا وعلقت في ذاكرته ليرددها لاحقًا.
4. صعوبات اللغة البراغماتية (التواصل الاجتماعي)
اللغة البراغماتية تعني المهارات المستخدمة في توظيف اللغة أثناء التواصل الاجتماعي – أي كيفية قول الشيء أكثر من مجرد محتواه اللغوي. يعاني العديد من الأطفال المصابين بالتوحد من اضطراب اللغة البراغماتية أو ما يسمى بصعوبة الاستخدام الاجتماعي للغة. الطفل في هذه الحالة قد تكون لديه حصيلة كلمات جيدة وقدرة على تكوين جمل صحيحة، لكن يواجه مشكلة في استخدام تلك اللغة بشكل مناسب للمواقف الاجتماعية.
على سبيل المثال، قد لا يعرف كيف يبدأ محادثة أو كيف يستمر فيها إذا بدأها الطرف الآخر. ربما يتحدث مطولًا عن موضوع يهتم به دون أن يلاحظ أن المستمع بدأ يفقد الاهتمام أو لم يعد يفهم صلب الحديث. بعض الأطفال يجدون صعوبة في أخذ الدور في الحوار؛ إما يظلون صامتين ولا يبادرون بالكلام، أو يحتكرون الحديث ولا يفسحون المجال للغير.
وقد يواجهون أيضًا مشكلة في فهم التعابير غير الحرفية؛ فالطفل المصاب بالتوحد ذو الصعوبة البراغماتية قد يفهم النكتة أو السخرية بشكل حرفي ويفتقد مغزاها الضمني. من العلامات الأخرى لهذه الصعوبة أن الطفل قد لا يغيّر طريقة كلامه بحسب الشخص أو الموقف. فمثلاً، قد يخاطب المعلم بنفس الأسلوب الذي يتحدث به إلى طفل في مثل عمره، أو يفشل في استخدام عبارات المجاملة والتحية المناسبة لكل مقام.
أيضًا قد لا يلتزم بموضوع المحادثة ويقفز من فكرة لأخرى فجأة لأن عقله انتقل إلى سياق آخر. كل ذلك يجعل التواصل معه تحديًا للآخرين على الرغم من أنه قد ينطق جملاً سليمة من حيث القواعد.
في البيت، قد تلاحظ الأم أن طفلها يتكلم لكنها تشعر أنه لا يعرف كيف يتواصل فعليًا: ربما لا يقول “من فضلك” أو “شكرًا” في الوقت المناسب، أو ينصرف فجأة أثناء حديث شخص آخر لأنه لم يدرك أنه من اللباقة الانتظار. هذه الأمثلة تدل على قصور في المهارات البراغماتية للغة.
جدير بالذكر أن اضطراب اللغة البراغماتية يرتبط بشدة باضطراب التوحد، فكلاهما يتضمنان صعوبات في التواصل الاجتماعي (مع اختلاف أن التوحد له أعراض أخرى إضافية كما ذكرنا). في الواقع، كثير من التحديات التي يواجهها الطفل المصاب بالتوحد في بناء صداقات أو التعامل ضمن مجموعة تعود لجوانب لغوية براغماتية أكثر من كونها مفردات أو قواعد.
والخبر الجيد أن هذه المهارات يمكن تطويرها بالتدريب: عبر علاج التخاطب المخصص لهذا الغرض، وتدريب الطفل على المهارات الاجتماعية (مثل لعب الأدوار وتمثيل المواقف)، وإرشاد زملائه ومعلميه للتفاعل بطريقة داعمة، يستطيع الطفل تحسين قدرته على استخدام اللغة في التواصل الاجتماعي بمرور الوقت.
تأثير اضطرابات النطق على تواصل الطفل وتطوره الاجتماعي

لا تقتصر صعوبات النطق واللغة المرتبطة بالتوحد على كونها مشكلات لغوية فحسب، بل تمتد آثارها إلى جوانب التواصل الاجتماعي والنفسي والتعليمي للطفل، فاللغة هي وسيلة الطفل لفهم العالم من حوله والتعبير عن نفسه وتكوين العلاقات، وعندما تكون هذه الوسيلة معطلة أو ضعيفة، يتأثر نمو الطفل الاجتماعي والعاطفي بشكل واضح، وفيما يلي تحليل لأهم تأثيرات اضطرابات النطق على حياة الطفل اليومية وتطوره:
- صعوبة التعبير عن الحاجات والمشاعر
الطفل الذي يواجه تأخرًا في اللغة التعبيرية قد يعجز عن إبلاغ والديه بما يريد أو ما يضايقه بالكلمات. مثلاً، قد يبكي أو يدخل في نوبة غضب لأنه جائع أو منزعج من شيء ما، فقط لأنه لم يستطع التعبير عن ذلك لفظيًا. هذا الوضع ليس مرهقًا للطفل فحسب، بل للأهل أيضًا الذين يجدون صعوبة في فهم رغبات طفلهم. ومع تكرار هذه المواقف، قد يتولد لدى الطفل شعور بالإحباط وقلة الحيلة وربما يتجنب محاولة التواصل تمامًا ظنًا منه أنه لن يُفهم على أي حال.
- ضعف التفاعل الاجتماعي وبناء الصداقات
التواصل اللفظي هو جسر التواصل مع الأقران، وعندما لا يستطيع الطفل فهم ما يقوله أطفال آخرون أو التعبير لهم عما في داخله، قد يميل إلى اللعب بمفرده أو البقاء بجانب البالغين حيث يشعر بأمان أكثر. كثير من أطفال التوحد الذين لديهم اضطرابات نطق حادة يُنظر إليهم على أنهم منعزلون.
قد يلاحظ المعلم في الروضة أن الطفل يلعب وحيدًا في الركن، لا يشارك في ألعاب الدور الجماعي ولا يتبادل الحديث مع زملائه إلا نادرًا. هذا الابتعاد الاجتماعي قد يؤدي للأسف إلى أن يفقد الطفل فرص تعلم مهارات اجتماعية مهمة من خلال اللعب الجماعي. كما أن أقرانه قد يجدون صعوبة في فهمه أو التواصل معه، مما يعيق تطور الصداقات الطبيعية في هذا العمر المبكر.
- تأثيرات على التعلم والتحصيل الدراسي
في المراحل العمرية الأكبر قليلًا، يدخل الطفل المدرسة ويصبح اللغة أساس التعلم. الطفل الذي يعاني من اضطراب في النطق أو فهم اللغة قد يواجه صعوبة في متابعة الدروس وفهم تعليمات المعلم. على سبيل المثال، إذا كان المعلم يشرح درسًا في العلوم مستخدمًا جملًا معقّدة أو تعليمات متعددة الخطوات، فالطفل ذو التأخر الاستقبالي ربما لن يستوعب معظم الشرح.
لو طُلب كذلك من الطفل الإجابة على سؤال شفهي أمام الصف، قد لا يتمكن من صياغة إجابته جيدًا بسبب تأخره التعبيري، فيظهر وكأنه لا يعرف الإجابة رغم أنه قد يعرفها ضمنيًا. هذا الارتباك في التواصل داخل الصف يمكن أن يؤدي إلى إحباط لدى الطفل وتراجع ثقته بنفسه أكاديميًا.
- سلوكيات ناتجة عن الإحباط أو سوء الفهم
كثيرًا ما تكون السلوكيات الصعبة لدى الطفل التوحدي مرتبطة بصعوبات التواصل. فمثلاً، إذا لم يفهم الطفل المصاب بضعف استقبالي تعليمات معينة، قد يُتهم خطأً بأنه يتعمد التجاهل أو العصيان، وربما يتم التعامل معه بأسلوب صارم يزيد توتره. وبالعكس، قد يقوم الطفل الذي لا يستطيع التعبير عن نفسه بالصراخ أو إيذاء نفسه أو الآخرين للتنفيس عن إحباطه.
في كلتا الحالتين، يكون السبب الجذري هو عجز الطفل عن التواصل بشكل سليم وليس رغبة في السوء. لذا نؤكد على أهمية أن ينظر الأهل والمعلمون خلف السلوك، فغالبًا ما يكون وراء كل سلوك مزعج رسالة لم تُفهم بعد بسبب قصور اللغة.
- تأثيرات نفسية بعيدة المدى
إذا لم يتم تدارك مشاكل النطق والتواصل مبكرًا، قد يعاني الطفل في مراحل لاحقة من ضعف الثقة بالنفس والشعور بالدونية مقارنة بأقرانه الذين يتواصلون بطلاقة. قد يدرك وهو يكبر قليلاً أنه «مختلف» في طريقة كلامه وتفاعله، مما يجعله عرضة للقلق أو حتى الاكتئاب.
بعض الأطفال المصابين بالتوحد ذوي المهارات اللغوية المحدودة يصبحون هدفًا للتنمّر من الأطفال الآخرين في المدرسة، وهذا يفاقم من عزلتهم. كل هذه التأثيرات تؤكد أن اضطرابات النطق ليست مجرد تأخر في الكلام يمكن التغاضي عنه، بل هي عامل محوري يؤثر على جودة حياة الطفل الاجتماعية والنفسية.
من المهم التنبيه إلى أن هذه التأثيرات ليست حتمية ولا دائمة. الكثير من الأطفال من ذوي التوحد أحرزوا تقدمًا هائلًا في مهارات اللغة والتواصل مع حصولهم على الدعم المناسب في الوقت المناسب.
كيفية دعم الطفل وطرق العلاج المتاحة

على الرغم من أن اضطرابات النطق المرتبطة بالتوحد قد تبدو معقدة ومقلقة، هناك العديد من الإستراتيجيات وطرق العلاج التي أثبتت نجاحها في تحسين تواصل الأطفال وتعزيز نموهم اللغوي والاجتماعي. الدعم يبدأ من تفهم الأهل ووصولاً إلى تدخل المختصين، وفيما يلي أبرز سبل الدعم والعلاج المتاحة:
- التدخل المبكر عبر علاج النطق واللغة
يعد علاج النطق والتخاطب أحد أهم وأولى الخطوات في خطة الدعم، يعمل أخصائي النطق والتخاطب مع الطفل على تعزيز قدراته في كلٍ من اللغة التعبيرية والاستقبالية، وتعليمه مهارات التواصل غير اللفظي أيضًا (مثل الإيماءات أو استخدام الصور)، مما يساعده على تحسين التواصل اللفظي وغير اللفظي بشكل ملحوظ.
على سبيل المثال، سيتم تدريب الطفل ذو التأخر التعبيري على نطق كلمات جديدة وبناء جمل تدريجيًا، والطفل ذو التأخر الاستقبالي على فهم تعليمات بسيطة ثم أكثر تعقيدًا خطوة بخطوة. أما بالنسبة للصدى اللفظي، فيمكن توظيفه عبر تقنيات علاجية خاصة لتحويل التكرار إلى حوار تفاعلي. ومع الوقت، سيساعد علاج النطق الطفل أيضًا على فهم لغة الجسد ونبرات الصوت بحيث يكتسب مهارات تواصل شمولية.
- العلاج السلوكي والتأهيلي المتخصص
إلى جانب جلسات التخاطب، تحليل السلوك التطبيقي (ABA) هو منهج علاجي شائع لأطفال التوحد يساعد على تطوير مهارات التواصل والسلوكيات التكيفية. يركز المعالج السلوكي على تعزيز المحاولات التواصلية لدى الطفل – مهما كانت بسيطة – من خلال التعزيز الإيجابي (مثل مكافأة الطفل عندما يحاول النطق أو يستخدم إشارة بدلاً من البكاء).
كذلك العلاج الوظيفي قد يكون مفيدًا خصوصًا للأطفال الذين لديهم تحديات حسية أو حركية تؤثر على النطق (مثل الحساسية المفرطة للأصوات). يعمل المختصون بشكل تكاملي لضمان أن خطة العلاج شاملة لكل احتياجات الطفل التواصلية.
- برامج التدريب على المهارات الاجتماعية
بالنسبة لاضطرابات اللغة البراغماتية، تدريب المهارات الاجتماعية هو الحل، حيث يمكن إشراك الطفل في جلسات جماعية مع أطفال آخرين (تحت إشراف متخصص) ليتعلم كيفية بدء المحادثات والرد المناسب واستخدام تعابير الوجه ولغة الجسد. يتم تمثيل مواقف حياتية –مثل التحية وتبادل الأدوار في الحديث أو طلب المساعدة– حتى يتدرب الطفل على هذه السيناريوهات في بيئة داعمة. مثل هذه البرامج تساعد الطفل على فهم قواعد التواصل الاجتماعي عمليًا وليس نظريًا فحسب.
- الدعم الأسري والمنزلي
دور الأسرة لا يقل أهمية عن دور المختصين، فالأهل الذين يتعلمون تقنيات التواصل الداعمة يمكنهم إحداث فرق كبير في تطور طفلهم. ينصح بأن يشارك الوالدان في جلسات إرشادية أو ورش تدريب (يوفرها العديد من المراكز) لفهم كيفية تطبيق ما يتعلمه الطفل في الجلسات العلاجية داخل البيئة المنزلية اليومية.
على سبيل المثال، استخدام جداول مصورة في المنزل يمكن أن يساعد الطفل ذو التأخر الاستقبالي على فهم الروتين اليومي، واستخدام بطاقات مصورة قد يمكن الطفل غير الناطق من الإشارة إلى ما يريد (طريقة التواصل بالصور PECS). كذلك من المفيد للأسرة تعلم إستراتيجيات مثل تبسيط اللغة عند الحديث مع الطفل، والتدرج في إعطاء التعليمات، وتعزيز أي محاولة تواصل يقوم بها الطفل ولو بإيماءة أو نظرة.
- الاستعانة بالتكنولوجيا ووسائل التواصل المعززة
في عصرنا الحالي، تتوفر تطبيقات وأجهزة تساعد الأطفال غير الناطقين أو ذوي اللغة المحدودة على التواصل. على سبيل المثال، هناك أجهزة ناطقة أو تطبيقات على الأجهزة اللوحية تتيح للطفل اختيار كلمات أو صور لتنطق عما يريد قوله. مثل هذه الوسائل يمكن أن تكون جسرًا مؤقتًا للتواصل إلى أن تتطور مهارات النطق لدى الطفل، فهي تمنحه صوتًا للتعبير ويقلل من إحباطه، وفي نفس الوقت تعلّمه مفهوم تبادل الأدوار في الحوار. بالطبع، يتم استخدام هذه التقنيات بإشراف أخصائي لضمان دمجها ضمن خطة العلاج الكلية.
- المتابعة في البيئة التعليمية
عند التحاق الطفل بالمدرسة أو الحضانة، التعاون بين الأهل والمعلمين وأخصائي النطق ضروري لضمان استمرار الدعم. يجب إطلاع معلمي الطفل على طبيعة اضطراب النطق لديه وأفضل الطرق للتواصل معه في الصف. أحيانًا يتم وضع خطة تربوية فردية (IEP) تشمل أهدافًا لغوية واجتماعية واضحة للطفل في المدرسة.
والمعلم الواعي لطبيعة صعوبة الطفل سوف يتعامل معه بصبر وتعاطف، فيستخدم جملًا أبسط، ويعطيه وقتًا أطول للإجابة، ويستعين بالصور والإشارات عند الشرح. هذا التعاون بين البيت والمدرسة يخلق بيئة متسقة حول الطفل تساعده على ترجمة ما يتعلمه في العلاج إلى مواقف حياته اليومية.
- البحث عن الدعم في المراكز المتخصصة
لا يجب على الأهل خوض الرحلة وحدهم. تتوفر في معظم المدن مراكز متخصصة توفر خدمات تشخيص وعلاج متكاملة للأطفال ذوي اضطراب التوحد. فعلى سبيل المثال، هناك العديد من مراكز علاج التوحد بالرياض والتي تضم فرقًا من أخصائيي التخاطب والعلاج السلوكي وغيرهم. مركز بداية في الرياض هو أحد هذه المراكز التي تقدم خدمات متكاملة لعلاج اضطرابات التواصل عند الأطفال، بدءًا من التقييم والتشخيص وصولًا إلى الجلسات العلاجية والإرشاد الأسري.
يمكن للأهل الاستفادة من خبرات هذه المراكز للحصول على إرشادات فردية ملائمة لحالة طفلهم، وكذلك لإشراك الطفل في جلسات علاجية منتظمة تسرّع من تقدمه.
نصائح التعامل مع الأطفال المصابين بالتوحد

وفيما يلي بعض النصائح العملية التي يمكن للأهل تطبيقها يوميًا لدعم طفلهم لغويًا وتواصليًا في المنزل:
- استخدام الإشارات المرئية: عزّز كلامك دائمًا بصور أو إشارات. على سبيل المثال، أشر بيدك للكرسي عندما تقول “اجلس على الكرسي”، أو استخدم بطاقة صورة عند ذكر شيء يحبه الطفل. الجمع بين المرئي والمسموع يلفت انتباه الطفل ويساعده على الربط بين الكلمات ومعانيها.
- مخاطبة الطفل بلغة واضحة ومبسطة: استخدم جملًا قصيرة وبسيطة عند التحدث إلى طفلك. تجنب الكلام بسرعة زائدة أو عبارات مجازية معقدة في البداية. بدلاً من “هيا ننطلق قبل أن نتأخر” قُل “حان وقت الذهاب الآن”. الكلام الواضح يسهل على الطفل فهمه ومعالجته.
- إعطاء الطفل وقتًا كافيًا للرد: بعد أن تطرح سؤالًا أو تعطي تعليمات، انتظر بضع ثوانٍ إضافية دون مقاطعة. قد يحتاج الطفل لوقت أطول ليستوعب كلامك ويجهّز رده. إذا لم يرد فورًا، قاوم الرغبة في تكرار السؤال بسرعة أو الإجابة نيابةً عنه – اصبر وستفاجئك محاولاته حين يشعر أن هناك متسعًا من الوقت.
- تعزيز أي محاولة للتواصل: انتبه واشكر طفلك أو امتدحه عندما يحاول التواصل بأي طريقة، سواء بالكلام أو بالإشارة أو حتى بجذبك نحو ما يريد. مثلاً، إذا أشار نحو الثلاجة ليطلب ماءً، قل له “أنت تريد الماء، أحسنت أنك أشرت لي!” ثم قدم له الماء. التعزيز الإيجابي يجعله يدرك أن محاولاته مفهومة ومقدّرة ويشجعه على تكرارها وتطويرها.
- القراءة واللعب التفاعلي: خصّص وقتًا يوميًا للقراءة مع طفلك بصوت عالٍ واللعب بألعاب تتطلب تبادل الأدوار (مثل لعبة الغميضة أو تقمص شخصيات الدمى). عند القراءة، أشر إلى الصور واسأل أسئلة بسيطة (“أين الكرة؟”) وأجب بنفسك إن لم يستطع الطفل، فهذا يعلمه مفردات جديدة ويشجعه على المشاركة. الألعاب التفاعلية تعلّم الطفل فن الانتظار والأخذ والعطاء في التواصل ضمن جو ممتع.
في الختام، تذكّر أنك لست وحدك في هذه الرحلة، قد تبدو اضطرابات النطق المرتبطة بالتوحد تحديًا كبيرًا، لكنها قابلة للتحسن بشكل واضح مع الصبر والدعم المناسب، فكل طفل يتقدم بوتيرته الخاصة، حتى الخطوات الصغيرة تستحق الاحتفاء. إن توفير بيئة غنية بالحب والتفهّم والتشجيع لطفلك، إلى جانب الاستعانة بالمختصين والمراكز الداعمة، سيمكّنه من تطوير مهاراته اللغوية والتواصلية تدريجيًا. مع الوقت والإصرار، سيجد طفلك صوته الخاص ويتواصل مع من حوله بثقة أكبر – وهذه أعظم هدية تستطيع منحه إياها كأب أو أم.
الأسئلة الشائعة
ما العلاقة بين اضطرابات النطق والتوحد؟
يعاني العديد من الأطفال المصابين بالتوحد من صعوبات في النطق والتواصل، وقد تشمل هذه الاضطرابات تأخر الكلام، أو صعوبة في نطق الأصوات، أو استخدام لغة غير وظيفية.
هل جميع الأطفال المصابين بالتوحد يعانون من تأخر في النطق؟
ليس بالضرورة. بعض الأطفال المصابين بالتوحد قد يطورون مهارات لغوية بشكل طبيعي، بينما يعاني آخرون من تأخر واضح.
ما هي أشهر أنواع اضطرابات النطق المرتبطة بالتوحد؟
من أبرزها: تأخر اللغة، واضطراب التواصل الاجتماعي (البراغماتي)، والإيكولاليا (تكرار الكلام)، وصعوبات النطق الحركي (Apraxia of Speech).
هل يمكن أن يتحسن النطق لدى طفل التوحد مع الوقت والعلاج؟
نعم، مع التدخل المبكر والمستمر، يمكن تحقيق تقدم كبير في مهارات التواصل لدى الطفل، خاصة إذا دُعمت البرامج العلاجية ببيئة منزلية مشجعة.
المصادر:
- Minimally Verbal School-Aged Children with Autism Spectrum Disorder: The Neglected End of the Spectrum
- American Speech-Language-Hearing Association (ASHA)
- NIDCD – Communication Problems in Children with Autism
- National Autistic Society – Autism & Speech
- TACA – Medical Causes of Speech Issues in Autism
- Verywell Health – Pragmatic Speech Delays in Autism
- Kennedy Krieger Institute – Speech & Language Problems
- PMC – Language Deficits in Autism
- DovePress – Language and Speech in Autism